من أين يجب أن نبدأ خطط إصلاح التعليم؟


أسامة أمين- نشر البروفيسور جون هيتي(John Hattie)     ، أستاذ علم التربية في جامعة ملبورن النيوزيلاندية، في عام 2008م ، بحثًا هامًا احتاج إلى 15 عامًا لإنجازه، اعتمد فيه على نتائج 800 تحليل تجميعي لنتائج 50.000 دراسة، شارك فيها 250 مليون طالب، حول العناصر التي تجعل الدرس جيدًا، والتي حددها في 136 عنصرًا مؤثرًا، واعتبر خبراء كثيرون أن هذه الدراسة بمثابة زلزال لكل استراتيجيات إصلاح التعليم، ووصفت صحيفة تايمز الإنجليزية العالم النيوزيلندي بأنه "أكثر علماء التربية تأثيرًا على مستوى العالم".
الطريف أن هذه الأبحاث التي تعتبر أشمل تحليل للدراسات التربوية على مستوى العالم، والتي شغلت الأوساط التربوية في الدول الناطقة بالإنجليزية منذ عام 2008م، ثم انتقلت إلى مختلف دول أوروبا في السنوات التالية، وظهرت ترجمات كتابه، الذي يحمل عنوانه الأصلي اسم (Visible Learning)، أي ما يمكن تسميته (العملية التعليمية المرئية)، باللغات الأوروبية، وشقت محتويات الكتاب طريقها إلى كليات التربية في الجامعات العالمية، ثم ظهر كتابه الثاني في عام 2011م، وحظي بنفس الاهتمام هناك، إلا أننا لم نجد عنهما شيئًا في العالم العربي بعد، فقررنا أن نفتح باب النقاش حول آرائه بعرض لأهم أفكاره، لعلها تصل إلى غرف المعلمين والمعلمات، فهم المعنين بها في المقام الأول.
هل خطط إصلاح التعليم هراء؟

يقول جون هيتي إنه وجد في بداية عمله في الجامعة الكثير من النظريات والآراء حول كيف يكون الدرس جيدًا، وكل واحدة من هذه النظريات تزعم أنها تعتمد على دراسات علمية، ولكنها تصل إلى نتائج مختلفة، الأمر الذي أثار شكوكه، فقرر أن يحلل كل هذه النتائج، بحيث لا يقتصر الأمر على ما إذا كان هذا العنصر أو ذاك ذا تأثير على جودة الدرس أم لا، بل أي هذه العناصر هو الأكثر تأثيرًا لتحقيق ذلك، وشدد على أن المقياس الوحيد الذي اعتمد عليه، هو قدر التقدم الذي يحققه هذا العنصر في تعلم الطلاب، وهو ما يعبر عنه بقوله: ((هناك آراء كثيرة، لكن ما يمكن الوثوق به فقط، هو وجود الدليل الذي يمكن إثباته علميًا)) .
ولعل أكثر ما أثار الانتباه إليه عالميًا، هو أن ما توصلت إليه أبحاثه تتناقض مع كل النقاشات التي يجريها المسؤولون التعليميون في مختلف دول العالم، والتي تركز بالدرجة الأولى على إصلاح الهياكل الخارجية للمدرسة وعلى طرق التدريس، ويقول إن هذه الإصلاحات تقع في نهاية سلم العناصر المؤثرة على نجاح العملية التعليمية.
ويعتبر هيتي أن نتائج هذا الكم الهائل من الدراسات، تسهم في ترتيب هذه العناصر حسب تأثيرها، وترد على التساؤلات عما إذا كان الاعتماد على الكمبيوتر في العملية التعليمية، ضمانًا لتحقيق نتائج أفضل أم لا، وينطبق الأمر نفسه على ما تتبناه المدارس التجريبية الحديثة من إلغاء الحدود بين الصفوف المختلفة، وترك الطلاب ليتعلم بعضهم من بعض، ويعتمدوا على أنفسهم ..
ويقول العالم النيوزيلاندي إن المعلمين لا يستطيعون تغيير مستوى الذكاء عند الطلاب، ولا يقدرون على القضاء على الفوارق الاجتماعية بينهم، وما يعنيه ذلك من اختلاف حظوظهم في الثقافة والاستعداد للمدرسة، لكن ما يقدر عليه المعلمون بالتأكيد هو تغيير طريقة تدريسهم لتحقق أفضل النتائج.
وتبعا للبروفيسور جون هيتي فإن كل العناصر الخارجية، من مناهج متطورة أو تقليدية، من مدارس حكومية أو خاصة، من صفوف بعدد قليل من الطلاب أو صفوف مكتظة بالطلاب، من استخدام للكمبيوتر والتقنيات الحديثة أو باستخدام السبورة التقليدية، كل هذه العناصر لها تأثير، لكن العنصر الحاسم والذي لا يضاهيه في أهميته أي عنصر آخر، هو المعلم  .
ويدلل على ذلك بالتنبيه إلى أننا نجد دومًا نتائج متباينة رغم اتفاق الظروف المحيطة في كل المدراس، ونجد أن بعض المعلمين يستطيعون تحقيق نتائج أفضل من زملائهم، في ظل الأوضاع نفسها، وبفارق في المستوى العلمي يصل إلى عام دراسي كامل، ويشير إلى أن كل واحد فينا يتذكر طوال حياته معلمًا أو اثنين أو ثلاثة فقط، رغم مرور عشرات المعلمين عليه، لكن هؤلاء القلة هم الذين تركوا بصماتهم علينا، لأنهم كانوا معلمين جيدين.
فإذا كان المعلم، هو أهم عنصر لتحقيق أفضل النتائج في العملية التعليمية، وإذا لم يكن للظروف الخارجية التأثير نفسه، فلماذا تنفق الحكومات الملايين والمليارات من أجل الانتقال من نظام تعليمي إلى نظام تعليمي آخر، وتعتقد أنه سيؤدي إلى نقلة كبيرة في مستوى التعليم فيها؟ لعل الإجابة تكمن في قياس مدى التغير الذي تحقق داخل الصف الدراسي، منذ انتقلت الصلاحيات من المركزية في داخل الوزارة إلى اللامركزية وزيادة صلاحيات مديري المدارس، ومنذ تعرفنا على التجارب العلمية الناجحة في كوريا الجنوبية وفي فنلندا، ومنذ ارتفعت ميزانيات التعليم، ومنذ تخلصنا من المباني المستأجرة إلى المباني المملوكة للدولة، ومنذ تغير هذا الوزير وجاء هذا الوزير.

المعلم الجيد

يحدد البروفيسور هيتي بعضًا من مواصفات المعلم الجيد، فيقول إنه هذا المعلم الذي يشعر بالمسؤولية تجاه طلابه، والذي لا يتردد في اختبار جودة دروسه مرة بعد مرة، ولا يعتقد بأنها مثالية، وهو المعلم الذي لا يبحث عن مبررات خارجية للنتائج السيئة لطلابه، مثل الحديث عن صفوف أكبر مساحة –وهو العنصر رقم 106 من حيث التأثير في قائمة هيتي، وميزانيات أكبر للتعليم، وعدد حصص أكبر، ويشدد على أن ما يحتاجه المعلمون لا يتعلق بالكمية، بل بالكيفية، فإذا رأى المعلم أن الطلاب غير قادرين على الاستفادة من دروسه، فعليه أن يغير من طريقة التدريس حتى يصل إلى نتائج أفضل.
ويضيف هيتي قائلاً إن المعلم الجيد لا يضيع وقتًا في الأمور غير الهامة، مثل إصرار بعض المعلمين على عدم البدء في الحصة حتى يجلس جميع التلاميذ مثل الأصنام، ويقول إن المعلم الناجح هو الذي يدرك تمامًا رد الفعل الصحيح على الإزعاج الذي يتسبب فيه أحد الطلاب، وهل يكون رد فعله حازمًا، أم ينهي الأمر بمزحة سريعة.
وينبه العالم التربوي المعلم إلى أنه هو الشخص الوحيد الذي يقرر مدى نجاح الحصة أو فشلها، ويستغرب من إصرار الكثير من المعلمين على التقليل من دورهم، والقول إنهم لا يقدرون على تغيير الواقع المحيط، والظروف التي تعرقل أعمالهم، مثل عدم اجتهاد الطلاب وإهمال الأسرة.
أما فيما يتعلق بجانب المشاعر فإنه يشدد على أنه لن تتحقق أي نتائج إيجابية في الدرس بدون الاحترام والتقدير والشعور بالاهتمام وهيمنة مناخ من الثقة المتبادلة في العلاقة بين المعلم وطلابه، وبين المعلم وزملائه.
ويدعو البروفيسور هيتي المعلم إلى التأكد من وضوح صياغته لأفكاره، بحيث يفهم الطلاب ما يريده منهم، ولا يتهم طلابه بعدم القدرة على فهمه، بسبب قصور فيهم. كما يستغرب العالم التربوي من عدم انتباه الكثيرين من المعلمين إلى أهمية هذا العنصر، بحيث يوزع المعلم الأوراق الكثيرة، ويطرح الأسئلة، ويشرح الموضوعات، ثم يجد الحصيلة هزيلة، ولا ينتبه إلى أنه نسي أن يبدأ حصته بتوضيح الهدف من الدرس، وبشرح المطلوب من الطلاب، فتمر 45 دقيقة، والطلاب يدورون حول أنفسهم، ولا يعرفون أين نقطة البداية وأين نقطة النهاية.
يصف هيتي المعلم الجيد بأنه إنسان يجيد ترتيب أفكاره، ويمتلك حماسًا شديدًا لمادته، وفضولاً لمعرفة الجديد في تخصصه، فينقل لطلابه كل ذلك الحماس، ويقدر على أن يكون في وسط الحدث، وفي محور الحصة، ولا يهم كثيرًا أن يكون معلمًا من الطراز التقليدي الذي يقف أمام الصف، أم معلمًا مؤمنًا بالتوجهات الحديثة في التربية، المهم أن يمتلك زمام الأمر في كل لحظة، بشرط أن ينطلق دومًا من رؤية الطالب، بأن يسأل المعلم نفسه طوال الوقت: «ماذا لو كنت مكانه؟»، وبعدها يحدد أنسب الطرق في هذا الموقف، لتحقيق أفضل النتائج لعملية التعلم.
ويشدد على أن المعلم الجيد يرفع سقف التوقعات، ويخلق مناخًا غير معاد للأخطاء، أي أن ينظر إلى أي خطأ يقع فيه الطالب، كفرصة جيدة لترسيخ معلومة، وإلى أن يعيد المعلم تقييم طريقته في الشرح، الذي لم يتمكن من توصيل المعلومة للطالب بحيث يصل إلى الإجابة الصحيحة، كما يطالب بأن يكون هناك دومًا تعاون متواصل بين المعلمين على تبادل الخبرات.
يرفض هيتي مطالب البعض بأن يتراجع دور المعلم في الصف، بحيث يقتصر على إدارة الحوار بين الطلاب وتوجيه دفته، بحيث تتركز العملية التعليمية على الطلاب بدرجة شبه كاملة، ويؤكد أنه لم يجد أي دراسات علمية جادة، تثبت أن التقدم في التعلم بهذه الطريقة يكون أفضل من التركيز على المعلم.
وينادي بدلاً من ذلك بأن يكون المعلم هو المهيمن على الصف، يتابع كل صغيرة وكبيرة، ويتحمل المسؤولية عن طلابه، ولا يرضى بأن يكون مستواهم متوسطًا، بل يسعى لأن يرتقي بمستواهم جميعًا، وأن يبث فيهم روح التحدي والرغبة في بلوغ القمة، وعدم الاكتفاء بالحد الأدنى فقط، وأن يمنحهم الشعور بالثقة فيهم وفي قدراتهم.
ويضرب على ذلك مثلاً بلعبة الكمبيوتر المعروفة باسم (الطيور الغاضبة)، والتي تقوم الطيور فيها بتحطيم الأسوار والمباني، وفي كل مرة يتمكن اللاعب من اجتياز مستوى من اللعبة، تزداد التحديات التي يجب عليه التغلب عليها لاجتياز المستوى الأعلى، ويشترط أن تكون هذه الزيادة في الصعوبة قادرة على استفزازه وإثارة روح التحدي في داخله، وهو الأمر الذي يعني أن درجة الصعوبة مرتفعة، بحيث لا يصيب اللاعب الشعور بالملل، وأن يدرك طعم السعادة بعد تجاوز هذه العقبة التي لم تكن هينة.
(فيدباك) أو التغذية الاسترجاعية
أكثر المصطلحات تكرارًا في كتابات البروفيسور هيتي، هي كلمة (فيدباك)، التي يستخدمها الكثيرون منا بلغتها الإنجليزية الأصلية، لأن ترجمتها وهي (التغذية الاسترجاعية) لا تعني لهم شيئًا، وغالبًا ما نستعملها بمعنى إبلاغ شخص بانطباعاتنا عما يقوم به، ونظرًا لأهمية هذا المصطلح عند هيتي، نعرض بإيجاز للمعنى الدقيق له.
عندما يريد شخص أن يختبر مدى تأثير أقواله وأفعاله على الآخرين، وهل وصلت الرسائل التي أراد نقلها للآخرين بالطريقة الصحيحة، أم أنهم فهموها بطريقة مختلفة عما أراد، فإنه يطلب منهم أن يذكروا له انطباعاتهم، بهدف تحسين قدراته في التواصل مع الآخرين، المهم في ذلك أن يبدي الشخص (في موضوعنا هنا هو المعلم أو الطالب)، رغبته في أن يعبر له الآخرون عن هذه الانطباعات، بل ويحق لهم أن يقدموا له اقتراحاتهم في كيفية تحسين طريقته، والمهم أيضًا أن يقوم هؤلاء الأشخاص الآخرون بهذه المهمة بنية مساعدة الشخص، وليس من أجل تحقيق أهداف تتعلق بهم، والأهم من كل ذلك أن يكون القرار النهائي في قبول هذه الآراء أو رفضها متروكًا للشخص المعني، لأنه هو الذي يتحمل في النهاية تبعات أقواله وأفعاله.
وعودة إلى العالم النيوزيلندي فإنه يعتقد أن هذه الطريقة من أكثر الوسائل فاعلية لتحسين نجاح العملية التعليمية، إلا أنه يرى أن الكثيرين يواجهون صعوبة كبيرة في القيام بذلك، ويرى أن غالبية المعلمين يخلطون بين (فيدباك) وبين الدرجات، ويوضح أن المدح وحده لا يعتبر الطريقة المثلى لمساعدة الطالب على الارتقاء بمستواه، وينصح المعلم بألا يركز على النتيجة التي وصل إليها الطالب، بل أن يرجع به إلى نقطة البداية، كيف تعامل الطالب مع المهمة التعليمية المطلوبة منه، وأين أصاب وأين انتهج طريقة خاطئة، وكيف يتمكن من القيام بمهام أصعب، ويشدد هيتي على ضرورة أن يتحدث المعلم مع الطالب بطريقة موضوعية تركز على مضمون الدرس وليس على شخص الطالب، وأن يكتب له تعليقات في دفتره، وعلى خلق مناخ يشجع الطالب على التجربة، والوقوع في الخطأ، دون أن يخاف من أي عواقب سلبية عليه، ويطالب هيتي المعلم في هذه اللحظة، أن يسأل نفسه عن سبب وقوع الطالب في هذا الخطأ، وما إذا كان ذلك يرجع إلى قصور في شرحه، أو استخدامه لطريقة غير مناسبة للطلاب.
ويطالب البروفيسور النيوزيلاندي المعلم بألا ينطلق من مبدأ أنه بلغ الكمال في الشرح والتحضير، بل أن يسأل نفسه مرة بعد مرة، عما إذا كان قادرًا على تطوير أسلوبه، وتحسين طريقته، وعن جوانب القصور لديه، وبذلك يكون قادرًا على الارتقاء بعمله بصورة مستمرة، ومفتاح هذه المعضلة، هو أن يسعى المعلم ليرى ما يقوم به بعيون طلابه، وهذا ما يطلق عليه هيتي اسم (العملية التعليمية المرئية)، أي أن يضع المعلم نفسه مكان طلابه، ويسأل نفسه عما إذا كان قادرًا على الاستفادة من هذا الشرح، أم أنه سيجد صعوبة في فهم هذه النقطة أو تلك.
ويقول عالم التربية المرموق إن الدراسات الكثيرة التي اطلع على نتائجها، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن غالبية المعلمين لا يحسنون تقييم المستوى الفعلي لطلابهم، فيشرحون لهم بطريقة تفوق مستواهم بكثير، أو تكون دون مستواهم، ولذلك فإنه من الضروري أن تتوفر لهم آلية للتوصل إلى معرفة التأثير الحقيقي لأسلوبهم في التعليم، وتتمثل هذه الآلية في النقاشات بين الطلاب حول الطريقة التي يتبعونها في حل التمارين، وعندها يكون المعلم قادرًا على أن يسمعهم وهم يفكرون بصوت عال، وبهذا يقيس نتائج عمله بصورة دقيقة، كما يمكن للمعلم أن يلجأ إلى استمارات استطلاعات رأي، تحتوي على أسئلة عن فهمهم للدرس، واحتمالات الإجابة المختلفة، بحيث لا تأخذ من وقت الحصة أكثر من دقيقتين، تقتصر على وضع علامة أمام الإجابة الصحيحة، يخرج منها المعلم بتقييم أفضل لعمله.
العلاقة بين المعلمين
يشتكي البروفيسور هيتي من سوء فهم الكثير من المعلمين لمصطلح الاستقلالية، فيرفضون العمل مع زملائهم، ولا يقبلون أن يقوم بعضهم بتقييم أعمال بعض، بل يرفضون أي حديث عن ذلك، وقد اتضح من الدراسات الميدانية العديدة حسب البروفيسور هيتي- أن الموضوع المحبب لدى المعلمين هو الطلاب، ويليه محتوى المناهج، ثم الاختبارات، ثم موضوعات من الحياة العامة مثل كرة القدم وغيرها، أما طريقة التدريس التي يتبعها كل واحد منهم، فإنها غير واردة على الإطلاق تقريبا في أحاديثهم.
ويشير العالم النيوزيلندي إلى أنه ما من معلم إلا ويعتقد يقينًا أنه يجيد الشرح، حتى ولو كان عجزه ظاهرًا للعيان، ويقول إن هذا العجز عن رؤية الوضع الحقيقي، يظهر مثلاً في مسألة أخرى، يراها في المدارس الإنجليزية، التي تتبع ثلاثة أرباعها طريقة تقسيم الطلاب إلى مجموعات في كل صف، اعتقادًا منها أن أفراد هذه المجموعة قادرون على أن يساعد بعضهم بعضًا، رغم أن الإحصائيات تؤكد أن 2 في المائة فقط من وقت الحصة، يخصص للعمل الجماعي، ومع ذلك لا يفكر أحد في الرجوع عن هذا التقسيم.
ويرى هيتي أن القصور في العملية التعليمية يبدأ من فترة إعداد المعلمين في كليات التربية، على مستوى العالم دون تمييز بينها، والتي يراها أسوأ المؤسسات إعدادًا للخريجين، ويرى أنها تتكلف أموالاً طائلة، لكن نتائجها غير مرضية على الإطلاق، ويطالب بدلاً من ذلك بالانتباه إلى السنتين أو الثلاث سنوات الأولى من العمل في التدريس، ويرى أنها أهم سنوات في عمر المعلم، ويتحدد على أساسها طريقة عمله في السنوات الثلاثين القادمة حتى يصل إلى سن المعاش، لأن المعلم الشاب يأتي بحماس شديد ورغبة جامحة في القيام بعمله بصورة أفضل ممن سبقوه، فإذا وجد المناخ المناسب، قدم كل ما يقدر عليه من جهد، وكان قريبًا من طلابه، ومستعدًا لتقبل النقد وتصحيح مساره مرة بعد مرة، حتى يصل إلى أفضل الطرق، أما إذا وجد كل من حوله يثبط من عزمه، ويطالبه بأن يسير مع القطيع، ولا يشذ عنهم، وينتقدون حماسه المفرط، فإنه يصبح مثلهم.
يرفض هيتي القول إن هناك أشخاصًا ولدوا ليكونوا معلمين موهوبين، ويرى أن وظيفة المعلم قابلة للتعلم مثل كثير من الوظائف، لكن أهم الصفات الشخصية التي يحتاجها المعلم هي المرونة، والقدرة على الاعتراف بالقصور، والانفتاح على ما هو جديد، والاستعداد المستمر للتعلم.
عند سؤاله عما كان سيفعله إذا أصبح وزيرًا للتعليم، أكد أنه لن يسعى للقيام بأي عمليات إصلاحات هيكلية ضخمة في قطاع التعليم، بل سيسعى إلى تطبيق ما استفاده من نتائج أبحاثه عن الدرس الجيد، وأنه سيعتمد في ذلك على تكوين مجموعات في كل منطقة من أفضل المعلمين بالتعاون مع أكثر مدراء المدارس نجاحًا، ليشرفوا على إطلاع بقية المعلمين على كيفية الارتقاء بعملهم داخل الصف، دون إضاعة الوقت والجهد والمال في إجراء تعديلات على الإطار الخارجي.
وماذا عن عالمنا العربي؟
يعتبر الأستاذ النيوزلندي العطلات الصيفية التي تستمر شهوراً طويلة، عنصرًا ضارا للغاية بالعملية التعليمية، بسبب الانقطاع الطويل عن الحياة المدرسية، وعن المعلومات التي يدرسها الطلاب عامًا بعد عام، ويشيد بالنموذج الأوروبي الذي يوزع العطلات على مدار العام، بحيث تكون أطول عطلة متصلة على مدار العام مدتها ستة أسابيع، فهل يدعونا ذلك إلى إعادة النظر في التخطيط للعام الدراسي لدينا؟
من جانبهم ينتقد الخبراء التربويون الأوروبيون تركيز هيتي على العملية التعليمية، وإغفاله للجانب التربوي، فيرون أنه لا يهتم بتعلم الطالب أسس الحياة الديمقراطية، ولا الإحساس بالجمال، ولا اكتساب المهارات الاجتماعية. ولكن إذا كان كثيرون منا لا يأبهون بهذه العناصر (الغربية) في حصصهم، ويتحدثون دومًا عن توزيع المنهاج على عدد الحصص، وأهمية أن يأتي الموجه فيجدهم ملتزمين بهذا التوزيع، فعليهم على الأقل أن يقدموا منتجًا تعليميًا جيدًا.
يمكن أن يتساءل البعض: هل احتاج الأمر إلى كل هذه الأبحاث والدراسات، حتى يصل هذا العالم التربوي المرموق القادم من أقصى بقاع الدنيا، إلى نتيجة مفادها أن (المعلم هو أهم عناصر العملية التعليمية)؟ ألم نكن نعرف ذلك دائمًا؟ وما الجديد في ذلك؟
ربما لا تحتاج البشرية إلى من يحل لها شفرات معقدة، بل إلى من يذكرها من آن لآخر بما كانت تعرفه من قبل، أمور بديهية لنا جميعًا، تبدو بسيطة، بل ربما ساذجة في عصرنا المشحون بقضايا بالغة التعقيد.
لكن لابد من الاعتراف أن ما ذكره البروفيسور هيتي من حقيقة أن المعلم هو أهم عناصر العملية التعليمية، اقترن في كلامه بآراء أخرى كثيرة، ربما تنطبق على عالمنا العربي تمامًا، ولذلك فهي جديرة بالتفكير فيها، مثل ترجمة المعلم أهميته هذه لشعور بالمسؤولية عن النتائج، وللتفكير من آن لآخر في كيفية تحسين طريقة عمله، ولاكتسابه رحابة الصدر ليستفيد من آراء زملائه.
يتحدث هيتي عن «مؤامرة الصمت» التي ترتكبها نقابات المعلمين واتحاداتهم، التي ترفض الاعتراف بأن هناك معلمين جيدين، وأن هناك أيضًا معلمين سيئين، وأن هؤلاء السيئين محتاجون إلى من يحفزهم إلى تحسين قدراتهم، فإذا لم يستجيبوا بالتحفيز، كان واجبًا إجبارهم على ذلك، فإن لم يستجيبوا كان عليهم البحث عن عمل آخر، لأن مستقبل مئات وآلاف وملايين الطلاب، لا يجوز أن يكون رهنًا بتوفير وظائف لأشخاص لا يريدون تطوير أنفسهم، فعامل البناء الذي يقضي اليوم وراء اليوم دون أن يرتفع بناؤه، أو يبنى جدارًا مائلاً، لا يجد من يدافع عن بقائه في عمله، فما بال الأمر إذا تعلق بعقول أطفال وشباب، وليس بحجارة وأسمنت .

 المراجع :
Hattie, John (2008). Visible Learning: A Synthesis of Over 800 Meta-Analyses Relating to Achievement. NY: Routledge. P. 392
Hattie, John: Visible Learning for Teachers: Maximizing Impact on Learning,

2011

Post a Comment

إضافة تعليق على الموضوع مع عدم تضمنه لعبارات مسيئة
شكرا على مشاركتكم

أحدث أقدم