قصة أستاذ إختار تحدي الإكراهات بالابتكار و الإبداع بمهنة التدريس




رغم المحيط القاتم الّذي يسبح فيه التّعليم بالمغرب، بعد فشل كلّ المحاولات الإصلاحيّة في إخراجه من النّفق المسدود الّذي أوصله إلى تبوّؤ ذيل التّرتيب العالميّ في مؤشّرات جودة التّعليم وفق تقارير مؤسّسات دوليّة، فإنّ هذا الوضع لم يمنع بعض نساء ورجال التّعليم من رفع التّحدّي ضدّ واقع الإكراهات الّتي يشهدها هذا القطاع الحيويّ، سعيا إلى ملامسة بصيص نور يشقّ الطريّق لجيل جديد من المتعلّمين نحو عوالم الإبداع والابتكار.
نور الدّين البرّاقي، الّذي يشتغل أستاذا للتّعليم الابتدائيّ بمدرسة ابن خلدون بتطوان، أحد هذه النّماذج الّتي سعت إلى نزع الجمود عن واقع التّعليم، وإعادة الرّوح إليه لجعله قطاعا تفاعليّا، مستعينا بما راكمه من تجارب في مجال التّعليم على مدى 26 عاما، وكذا تجاربه في التّنشيط التّربويّ، باعتباره إطارا وطنيّا حاصلا على عدّة شواهد في المجال، بالإضافة إلى شواهد وطنيّة أخرى في إدارة المخيّمات الصّيفيّة وتخصّص معامل تربويّة، والمهارات الحياتيّة (البرمجة اللّغويّة العصبيّة).
عشق نور الدّين للتّدريس، وإصراره على ألّا يكون مجرّد رقم ضمن الأرقام، دفع به إلى سلك دروب البحث للاطّلاع على تجارب عدد من الدّول الرّائدة في مجال التّعليم، من أجل تطوير إمكانيّاته المهنيّة. هذا البحث الممزوج بشغف كبير للمهنة "ألهمني ابتكار أدوات وآليات تربويّة ملائمة لتجربة تعليم القراءة المبكّرة الّتي نشتغل ضمن تصوّرها، طوّرت فعاليّة العمليّة التّعليميّة، في ظلّ استراتيجيّة التّعلّم التّفاعليّ النّشط"، يقول البرّاقي لهسبريس.



مشعل نور في وسط العتمة
فضاء تتعانق فيه الألوان في تناسق سرمديّ يمنح الحياة لحجرة الدّرس، تؤثّث فيه أدوات متنوّعة هذا الفضاء البهيج: تيجان ورقيّة رسمت عليها حروف الأبجديّة العربيّة، لوحات تربويّة ضمّت حروفا وأرقاما، وألعاب تربويّة متعدّدة.. عناصر اجتمعت في فضاء الصّف لتخلق عالما صغيرا محفّزا للتّعلّم، ويكرّس لدى التّلاميذ حبّ المدرسة والمدرّس.
يقول البرّاقي إنّ "الاكتفاء بانتقاد وضع ما دون بذل أيّ محاولة لتغييره لا يعدّ خيارا صائبا، لأنّه حتّى لو كانت عتمة اليأس تحيط بنا من كلّ جانب، فإنّ علينا أن نحمل مشعل الأمل دوما"، مضيفا أنّ "التّركيز على التّعلم الذّاتي، ولعب الأدوار، وحلّ المشكلات، والعصف الذّهنيّ لها أثر فعّال في تنمية قدرات المتعلّم وبلورة قدراته بشكل إيجابيّ يولّد الإبداع والابتكار".



ويردف أنّ اشتغاله من خلال تجربة القراءة المبكّرة بمكوّناتها الخمسة، الوعي الصّوتي، المبدأ الألفبائيّ، الطّلاقة، المفردات والفهم، واعتماده على الملموس بدل المجرّد في عمليّة التّعليم، بتوظيف بيداغوجيّة اللّعب ضمن مجموعة من الآليات والوسائل الّتي ابتكرها، "أعطت أكلها وتحقّقت من خلالها الأهداف المتوخّاة في مدّة زمنيّة محدّدة"، مؤكّدا أنّ فهم طبيعة التّلميذ يساهم في الرّفع من قدراته ومهاراته.

الحاجة أمّ الاختراع
يعتبر البرّاقي أنّ تعدّد الوضعيّة المشكلة في عمليّة التّعليم كانت عاملا أساسيا دفعه إلى البحث في تجارب مجموعة من الدّول الغربيّة الرّائدة في مجال التّعليم، بالإضافة إلى تجربة جيل مدرسة النّجاح الّتي خاضها سنة 2009، والّتي كانت التّجربة الأولى الّتي اعتمدتها الوزارة، "كلّ هذه التّجارب، مع تلك الّتي راكمتها خلال سنوات اشتغالي، سواء كأستاذ بالتّعليم الابتدائيّ أو على مستوى التّنشيط الثّقافيّ، قمت بإسقاطها على قسمي، فأعطت نتائج فريدة، ومن هنا تولّدت لديّ فكرة ابتكار آليات تدريس فعّالة، تلائم طبيعة فهم التّلاميذ وقدراتهم الاستيعابيّة، وتبسّط لهم العمليّة برمّتها".



ويعزي البرّاقي سرعة تحقّق الأهداف المرجوّة داخل قسمه إلى اعتماده في تجربته على تحويل المجرّد إلى الملموس، "فمثلا بالنّسبة إلى تيجان الحروف الّتي أعتمد عليها في تدريس الأبجديّة، فإنّ وظيفتها تقوم على تجسيد الصّوت في ذهن التّلميذ"، مضيفا أنّه "عندما يُقرأ صوت معيّن، يقوم التّلميذ المتعثّر المتوسّط بالرّبط بينه وبين القيمة الّتي يجسّدها ذلك التّاج".
وحول الإشكاليّات الّتي يطرحها اختلاف مستويات الاستيعاب لدى التّلاميذ، يوضح البرّاقي أنّ مراعاته خصوصيّات الصّفّ، من خلال تقسيم التّلاميذ إلى ثلاث فئات (فئة المتعثّرين، وفئة المتوسّطين، وفئة الّذين تمكّنوا من المهارات) "مكّنت من حلّ الإشكال، وبالتّالي أثمرت التّجربة نتائج إيجابيّة ومهمّة".



واستدلّ أستاذ التّعليم الابتدائيّ على نجاح تجربته بحالتين صعبتين تتابعان دراستهما في صفّه، إحداهما حالة تلميذ لديه إفراط في الحركة وتشتّت في الأفكار وغياب التّركيز، والأخرى حالة تلميذ يعاني التّوحّد، وقضى ثلاث سنوات بالقسم الأوّل دون أيّ نتائج ملموسة، "والحالتان تمكّنتا في النّهاية من قراءة وكتابة ونطق كلمات وجمل، بفضل أسلوب الوعي الصّوتي، وبيداغوجيّة اللّعب التّي مكّنتني من تجاوز هذه الصّعاب في ظرف وجيز، وتحقيق جميع الأهداف الّتي تسعى إليها منهجيّة تعليم القراءة المبكّرة"، يقول البرّاقي.
وعلى مستوى الرّياضيات، أوضح المتحدث ذاته أنّ الأدوات والألعاب الرّياضيّة الّتي ابتكرها تعتمد على مبدإ المناولة، إذ تتيح للتّلميذ تلمّسها مادّيّا، كما تتيح له الشّروع في عمليّة التّعلّم الذّاتيّ، مضيفا أنّ "هناك كذلك تجربة "بيك"، الّتي تعتمد على بطاقات الأعداد، والّتي ساعدتني في عمليّة الحساب الذّهنيّ، كما سرّعت عمليّة العدّ لدى التّلاميذ في وقت وجيز".



النّتيجة من جنس العمل
يقول المثل العربيّ المتداول "من جدّ وجد ومن زرع حصد". مقولة تجسّد خلاصة القناعة الّتي تحرّك البرّاقي للعمل في مجاله بتفان وشغف، ويدفعه تمكّنه من عدّة ملكات، من قبيل الرّسم والتّنشيط وآليات التّلقين وحبّه الكبير للبحث من أجل المعرفة، إلى تطوير مهاراته والإبداع فيها، فاستحقّ بذلك لقب الأستاذ النّموذجيّ.
وحول محصّلة هذا المجهود الجّبار الّذي يبذله في إعداد دروسه، سواء على مستوى المدرسة أو على مستوى البيت، يقول نور الدّين: "عبر هذه الوسائل الّتي أعتمدها يكون التّلميذ قادرا على القراءة بطلاقة في ثلاثة أشهر، ويمكن القول بأن نسبة النّجاح في صفوف تلاميذ قسمي وصلت إلى 95 بالمائة، فكلّهم الآن يقرؤون بطلاقة ويكتبون بشكل جيّد في أقلّ من سنة" .
وحث البرّاقي على ضرورة أن يكون المعلّم مُبدعاً في تفكيره، وفي اختيار النّهج الذي يتّبعه، معتبرا أنّ المُبدع لا يشعر بالرّضا عند القيام بالأعمال التّقليديّة، "فالإبداع لا يتحقّق بالكسل أو بالممارسة الرّوتينيّة، وإنّما يتحقّق بالعمل الدّؤوب، والبحث المستمرّ، وتنويع أدوات وآليات الاشتغال، من أجل تحقيق المتعة للتّلميذ، من جهة، ومن أجل تحفيزه على التّعلّم والاجتهاد من جهة أخرى" يضيف البرّاقي.
عن هيسبريس

Post a Comment

إضافة تعليق على الموضوع مع عدم تضمنه لعبارات مسيئة
شكرا على مشاركتكم

أحدث أقدم